

أيمن عبد المجيد
«الشهادة» قرار واختيار
كانت الساعة السابعة إلا خمس دقائق صباحًا، عندما شق الصمت صوت محرك سيارة، يبدو منه أنها مسرعة، دقق الملازم أول أدهم الشوباشى محاولا رؤيتها قبل أن تقترب من كمين «أبو الرفاعى» بالشيخ زويد، لم توقفها الطلقات النارية التحذيرية التي أطلقت فى الهواء.
فى الأول من يوليو 2015، كان تأخر اتخاذ القرار دقيقة واحدة يساوى حياة أفراد الكمين البالغ عددهم 23 مقاتلًا، يقفون على ثغور المدينة، فى حرب ضروس تدور رحاها لاقتلاع الإرهاب من جذوره. واصلت السيارة تقدمها، صوب حراس الوطن نيرانهم باتجاهها، لمنعها من بلوغ الكمين، صوت محركها المرتفع وحركتها متوسطة السرعة قياسًا على صوت محركها، يشير إلى ثقل حمولتها من المواد المتفجرة، يصوب أفراد الكمين رصاصاتهم باتجاهها فلا تخترقها، السيارة مصفحة بما فى ذلك الزجاج الأمامى لتصل لهدفها.
تتسارع دقات القلوب، تزداد اقترابًا من الكمين، تبدأ الثوانى المعدودات فى النفاد، المسافة لا تسمح لطاقم الدبابة المصاحبة للكمين من التصدى للهدف المعتدى، يتخذ الجنديان البطلان حسام جمال وأحمد عبدالتواب قرارهما المصيرى فى ثوان معدودة.
يتركان موقعيهما بالكمين، يسرعان مترجلين، لملاقاة السيارة المفخخة على مسافة 75 مترًا من الكمين، يطلقان النيران عليها، بلا جدوى، يقترب البطل أحمد عبدالتواب من واجهة السيارة المفخخة، يصوب سلاحه باتجاه الفتحة الضيقة المتروكة للسائق الإرهابى للرؤية، فيرديه قتيلًا.
فى الوقت ذاته كان البطل حسام جمال يصوب نيرانه باتجاه البراميل الحاوية للمتفجرات التي تحملها السيارة، التي لم تتوقف بعد، لتنفجر، مخلفة موجة انفجارية ضخمة، على بعد 75 مترًا فقط من التجهيزات الهندسية للكمين.
اختار البطلان حسام جمال، وأحمد عبدالتواب الشهادة، قررا التضحية، فى محاولة للحيلولة دون دخول السيارة المفخخة للكمين، فعندها ستكون الموجة الانفجارية مدمرة للكمين وجميع أفراده.
أحدثت الموجة الانفجارية إصابات فى عدد من أفراد الكمين، وارتقى الشهيدان، ليواصل زملاؤهما الأبطال القتال بقيادة الشوباشى، توالت سيارات الدفع الرباعى التي تحمل الإرهابيين من مختلف الاتجاهات شمالًا وجنوبًا، فى محاولة للاستيلاء على الكمين الأهم فى حماية المدينة والطريق المؤدى إليها.
تزايدت قذائف الهاون القادمة من مسافة 3.5 كيلومتر شديدة التدمير، قاد البطل الشوباشى رجاله، تمسك كل منهم بموقعه وفق الخطة المدربين عليها، بعث برسائل طلب الدعم، الهجوم فى ذلك اليوم على أكمنة متعددة فى توقيت واحد.
فى ذلك اليوم المشهود، حاول الإرهابيون تنفيذ أضخم هجوم على أكمنة الشيخ زويد فى محاولة يائسة للسيطرة على المدينة، بهدف رفع راية الإرهاب السوداء على مبنى حكومى واحد لتصوير لقطات لدقائق وترويجها، واستثمارها إعلاميًا وسياسيًا، لكنهم فوجئوا بأسود مصر تحمى عرينها.
نزل الشوباشى من أعلى الكمين إلى الدبابة المرافقة محاولًا استخدامها فى صد هجوم كثيف للإرهابيين بسيارات الدفع الرباعي، فوجد سائقها مصابًا، واثنين من طاقمها الأربعة استشهدا بشظايا قذيفة هاون سقطت بجوارها، فأمر سائقها بالإخلاء الفورى والذهاب للقطاع حتى لا تسقط ذخيرتها فى يد الإرهابيين أو تنفجر بفعل قذيفة هاون فتدمر الكمين، فبدون الطاقم كاملًا يصعب استخدام الدبابة.
يصعد من جديد، بينما عدد الشهداء بلغ 15 شهيدًا، فيما يواصل الأبطال صف ضابط وسبعة جنود وقائدهم الشوباشى القتال، بات الإرهابيون على مرمى البصر، والقتال محتدم، يصد الشوباشى الهجوم القادم من جهة الشمال، بينما قناص الكمين أحمد درديرى يدافع عن جهة الجنوب.
درديرى يترك سلاحه ويصفق لنفسه، بعد أن نفدت خزنة الذخيرة، قبل أن يعاود تلقيم السلاح خزنة أخرى، يطلب من الشوباشى النظر، فإذا به بمفرده أردى 12 إرهابيًا قتيلًا بمحيط الكمين، يحفزه الشوباشى ويطلب منه اليقظة ومواصلة القتال.
أبطال الكمين أسقطوا نحو 200 من الإرهابيين، أرسلوهم إلى عدالة السماء ليحاسبهم الله على عدوانهم وجرائمهم، قبل أن يرتقى أبطال الكمين شهداء أحياء بإذن الله.
يصوب قناص من الإرهابيين نيرانه باتجاه عبدالتواب، ليصيبه بعد محاولات عدة فاشلة فى معدته، يواصل عبدالتواب القتال مصابًا، فتصيبه رصاصة أخرى يرتقى بها شهيدًا.
يعيد الشوباشى ترتيب جنوده السبعة المتبقين على قيد الحياة يدافعون رغم إصاباتهم عن وطنهم حتى آخر قطرة من دمائهم، يتوقف إطلاق النار دقائق يجمع فيها الأبطال ذخيرتهم، لاستئناف القتال، يظن من تبقى من الإرهابيين أن الأبطال استشهدوا، فيحاولون جمع جثث الإرهابيين من محيط الكمين فى ٧ سيارات دفع رباعى.
يفاجئ أبطال الكمين الإرهابيين بوابل جديد من النيران، مستهدفين السيارات لإعاقتها والحيلولة دون هروبها قبل وصول الدعم، فتتعطل ٤ سيارات، ويفرون بثلاث سيارات حاملين بعض جثث رفاقهم الإرهابيين وتاركين البعض الآخر بمحيط الكمين.
لم يكن ذلك اليوم المشهود الأول من يوليو 2015، إلا صفحة من آلاف الصفحات فى سجلات البطولات الخالدة، التي سطرها أبطال عظماء بحروف من نور فى تاريخ مصر القديم والحديث، ومن هؤلاء الأبطال من قضى نحبه، شهداء أحياء عند ربهم يرزقون، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا.
منذ «سقنن رع»، أول شهداء مصر القديمة ومن خلفه ابنه الشهيد «كامس»، فى حرب تحرير مصر القديمة من احتلال الهكسوس، مرورًا بشهداء مصر الحديثة فى معارك التحرر من الاحتلال البريطانى، وصولًا إلى الشهيد الذهبى الفريق عبدالمنعم رياض الذي استشهد على الجبهة بالخطوط الأمامية فى حرب الاستنزاف، وشهداء أكتوبر المجيد، وصولًا لشهداء حماية الوطن وتطهيره من الإرهاب.
ذرية بعضهم من بعض، شرفاء أنقياء، اختاروا الشهادة، فإما النصر أو الشهادة، لا يترك البطل منهم سلاحه حتى يذوق الموت، الشهادة اختيار، يهبها الله لمن أخلص نيته فى سبيل الله والوطن، شهداء مصر فى كل ساحات الشرف والعمل، من أبطال القوات المسلحة والشرطة المصرية، من يقف على الثغور وعلى الحدود ومن يحمى الأمن الداخلى وسلامة المواطنين، شهداء الجيش الأبيض من الأطباء، شهداء العدالة من القضاة الذين استهدفتهم الأيدى الغادرة.
تحية لأرواح شهداء مصر فى عيد الشهيد، الذي يحل فى التاسع من مارس الجارى، وتحية لأسر الشهداء أمهاتهم اللاتى ضربن المثل الأعلى فى الصبر والاستعداد لمزيد من التضحية فى سبيل الوطن، وللزوجات اللاتى يكملن مسيرة تربية الأبناء، وللأشقاء والشقيقات والأبناء.
تحية لأرواح الشهداء الأحياء عند ربهم وفى ضمير مصر، بتضحياتهم تحيا مصر آمنة مستقرة برعاية الله، ودورنا جميعًا تخليد بطولاتهم ورعاية أسرهم فمن أجل مصر وشعبها بذلوا أرواحهم.. تغمدهم الله برحمته وأسكنهم فسيح جناته.